أسطورة الرمال
بسم الله الرحمن الرحيم
أسطورة الرمال
6 / 10 / 1446
الحمد لله...
لا حديث أعظم من القرآن، ولا أخبار أصدق منه في البيان، وهل تعلم قصصًا أعظم منه في النفس أثرًا، وأشد منه في الوعظ سلوكًا.
إن تقليب القصص القرآنية يعيد للنفس زكاءها، ويَقْلِب عن النفس كُدْرتها وكَدَرها ﭽ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﭼ الروم: ٩.
فمن قص على نفسه القرآن تفكر، وترك الطغيان والتجبر، ورأى فيها أعظم سلوى للمستضعفين، لأن القرآن ليس وقائعَ ماضية فحسب، بل سنن وإشارات باقية، ﭽ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪﭼ الأعراف: ١٧٦.
والحديث اليوم عن قوم من العرب، لُقبوا (بأسطورة الرمال)، كانوا قد بنوا في طرق أسفارهم أعلامًا ومنارات، كيلا يضل السائرون في تلك الرمال المتحركة، سكنوا جنوب الجزيرة العربية، كانوا طوالًا جسامًا، إذْ بلغ أطولهم مئة ذراع، وأقصرهم ستين ذراع( )، بلغت بهم حضارتهم وقوتهم أن سبقوا من قبلهم فكانوا على قوة في البأس، وعِظَمٍ في السلطان، وتغلبٍ في البلاد. حيث قال الله عنهم: ﭽ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭼ الفجر: ٨ وقالوا هم عن أنفسهم: ﭽ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﭼ فصلت: ١٥.
إنهم قوم عاد.
وكانت العرب تصف أي شيء عظيم قوي بأنه عاديَّ( )، نسبة إلى قوم عاد، وقد عُرفت قوم عاد براجحة الرأي، وسداد العقل( )، فإذا أرادوا مدح قوم قالوا: لديهم عقول كأحلام عاد. لكن أعماهم الطغيان، وشدةُ الغرور، حتى استحمقوا الصالحين، واستخفوا بجانب رب العالمين، حتى قالوا لنبيهم وقد امتلأوا إعراضًا ونكوسًا ﭽ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭼ الشعراء: ١٣٦ - ١٣٨، فتغطرسوا بالمال، وتباهوا بالقوة والعيال، وكانوا يرون أن لهم الخلافة بعد عصر الطوفان، وغرق الأرض بأسرها، حتى ذكّرهم نبيهم بنعمة الاستخلاف في الأرض، فقال هود لهم واعظًا ومنبهًا: ﭽ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭼ الأعراف: ٦٩
حفهم الله بالجنات، وفجر لهم من العيون، وأغدق عليهم من السوارح والبوارح والأنعام ما جعلهم في نعمة وافرة، قال هود لهم: ﭽ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﭼ الشعراء: ١٣٢ - ١٣٤
وقد كانوا من رفاهية عيشهم، وقوة أجسادهم أنْ بنو الأبراج الطوال، والقصور المشيدة، قال تعالى: ﭽ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﭼ الشعراء.
فكانوا بينون فوق كل ريع أي: مرتفع. آية، أي: أعجوبة، فقد بنوا بنيات كثيرة على المرتفعات في طرق المسافر، وسمَّى الله هذه البنايات بالمصانع، والمصانع: خزانات المياه الضخمة.
ثم قال الله متهكمًا بهم: ﭽ ﯬ ﯭ ﭼ فوصلت أُمَّة عاد في حالِ انْحِطاطِها مبلغًا كبيرًا حيث حولت ما كان موضوعا للمصالح إلى مفاسد (وهي هذه المصانع)، فعمدوا إلى ما كان مبنيا لقصد تيسير السير والأمن على السابلة من الضلال في الفيافي المهلكة فجعلوه مكامن لهو وسخرية، كما اتخذت بعض أديرة النصارى في بلاد العرب مجالس خمر، فليس عيبُ الله عليهم أنهم بنوا هذه الخزانات الضخمة (فهي مصالح للناس) إنما عيبُ الله عليهم أنهم اتخذوا هذه المصانع أماكن يجاهر فيها بالكفر، ويصرح بها بالفجور( ).
قال أبو الدرداء واعظًا: "يا أهل دمشق، إنه كانت قبلكم قرون، يجمعون فيرعون، ويبنون فيوثقون، ويأملون فيطيلون، فأصبح أملهم غرورا، وأصبح جمعهم بورا، وأصبحت مساكنهم قبورا، ألا إن عادا ملكت ما بين عدن وعمان خيلا وركابا، فمن يشتري مني ميراث عاد بدرهمين؟".
وقد كانت عاد ذاتَ جيوش جرارة، غليظةَ الانتقام، قال الله عنهم على لسان نبيه: ﭽ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﭼ الشعراء: ١٣٠ فعندهم إفراط في الأذى والانتقام، والبطش في الانتقام من صفات أهل النار، قال : "صِنْفانِ مِن أهْلِ النّارِ لَمْ أرَهُما: قَوْمٌ مَعَهم سِياطٌ كَأذْنابِ البَقَرِ يَضْرِبُونَ بِها النّاسَ...".
بل كان فيهم أمراء اشتهروا بالعناد، وعُرِف عنهم الأمر بالتمرد والعصيان: ﭽ ﮨ ﮩﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﭼ هود: ٥٩.
وقد حثهم حنبيهم على الاستغفار والتوبة، وقال:
ﭽ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﭼ هود: ٥٢ لكن أكثرهم كذّب وكفر، ﭽ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﭼ الشعراء: ٨ - ٩
فردوا دعوة الحق، واحتقروا نبيهم، ورموه بالسفاهة، فقالوا: ﭽ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﭼ الأعراف: ٦٦، وقالوا أن هودًا مسوس، بسبب تكذيبه بآلهتهم، يخوفون الناس أن من كذب بآلهتهم تَعَرَّضت له بالمس، فقالوا: ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭼ هود: ٥٤، وكلامهم في غاية الحمق، وبعيد عن مقارعة الحجة بالحجة، فاتهموا نبيهم أولًا بالجنون، ثم بالمس، لأنه كلام ملفق من نوع ما يصدر عن السفسطائيين، فجعلوه مجنونًا وجعلوا سبب جنونه مسًّا من آلهتهم.
فلما غلبهم هود بالحجة، وأفلسوا من الإدلاء بالمحجة، أقاموا التحدي، ونصبوا العناد على أقصى حد، فقالوا: ﭽ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭼ الأحقاف: ٢٢
فبدأ مقت الله عليهم، فأمر الله السماء فأمسكت، والأرض فأجدبت، فعاشوا الجفاف، وذاقوا لباس الجوع، قم أمر الله بجند لطيف من جنوده، قوي من خلقه، فهاجت الريح، فتكاثف السحاب، و ياليتهم عقلوا عن الله تحذيره كما فعلت قوم يونس لما رأوا العذاب فتابوا، بل تمادوا بحماقتهم، واستبشروا على فسادهم، وظنوا أنه مطر غيث، وماء رحمة، ﭽ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﭼ الأحقاف: ٢٤ - ٢٥
فسلط الله عليهم ليالي نحسات، وريحًا مُستمرًا في عدد أيام حسومًا، واستمر بهم هذا النحس سبع ليال وثمانية أيام حتى أبادهم عن آخرهم، واتصل بهم خزي الدنيا بعذاب الآخرة، وقد كانوا يقولون تكبرًا وغطرسة ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭼ الشعراء: ١٣٧ - ١٣٨
فما أشد غرور الإنسان وقد كان ينادي من أشد مني قوة! وما أبشع كِبْر الحضارات عنما تكثر البطش وشدة الانتقام وتسترخص الدماء، متسلطة على الضعفة والأبرياء! ﭽ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﭼ فصلت: ١٥، هذه نهاية الظلمة، وخاتمة الطغاة الفجرة، وهذا حكم الله في المعاندين، ﭽ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﭼ فصلت: ١٦
فاتقوا الله أيها المؤمنون، واحذروا الطغيان على البعاد، ومن نشر العتو والفساد، واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربنا غفور شكور.
الخطبة الثانية: الحمد لله.
ما أكثر ما يتعارك الحق والباطل، والإيمان والكفر، والإصلاح والإفساد، فإن في قصص القرآن من ذلك كثير، وخبر النهايات على ذلك بين واضح وشهير، فلا دولة إلا إلى الحق، ولا إدالة إلا على الباطل.
فقصة هود شاهدة على أن إيذاء الصالحين ونبزهم بالألقاب لا يغير حقيقة الحق، ولا يدل إلا على طريقة قديمة لأهل الباطل في التنفير من الصلاح.
وفي قصة هود من الشواهد أن المربي والمصلح يعتدل في طرحه، ويتناءى عن التكبر في دعوته، ويدعو بالتي هي أحسن، فليس الداعي والمربي بمسيطر على الناس، بل الواجب عليه قول الحق، وعلى الله التكلان.
وفي قصة هود من الشواهد أن على المرء أن يذكر إخوانه بنعم الله، ويحذرهم من الاغترار بالنعمة، فليست النعمة صك ضمان يأخذ المرء معها الخلود، بل الأيام دول، والشواهد عواقب، والمؤمن يرجو ويخاف.
وفي قصة هود من الشواهد أنه لا خير وإلا سببه التمسك بالدين، فهو قوام الحياة، وأساس العدل، وعليه نصب كل ميزان إلى يوم الدين، قول نوح ﭽ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﭼ هود: ٥٢.
وفي قصة هود من الشواهد أنه سيادة الله على خلقه أخضعتهم تحت قانون رباني، وسنة كونية لا تتبدل ولا تتغير، وهي أن الظلم له عواقب مشينة، والعناد له مآلات وخيمة، فكل من كفر بأنعم الله هو بين عذاب عاجل، أو عقاب آجل، ﭽ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﭼ الأحزاب: ٦٢