اقتلاع اللغة العربية من الألسن
بسم الله الرحمن الرحيم
اقتلاع اللغة العربية من الألسن!
12 / 8 / 1442هـ
الحمد لله الذي جعل اللسان يُبين عن الجنان، وجعل اللغةَ العربية سيدةَ اللغات والبيان، فكم من فصيح أثَّر في مقاله، وكم من خطيبٍ ساد في نظمه وبيانه، أشهد أن إله إلا الله جعل القرآن عربيًا، وتحدّى به صناديد البلاغة في كل بقعة، وفاق بروعة معانيه كلَّ رفعة، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله سيدُ الأقحاح، وقامةُ الإفصاح، ذو الجُمَلِ الكبار الصحاح، وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
اختارها الله واصطفاها من بين جميع الألسن على كل الحضارات، وكلِّ الأمم البائدات، إنه جمال اللغة العربية، وروعتُها وبهاؤها، فلذا خُصَّت بالقرآن، ﭽ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﭼ "وذلك لأن لغة العرب أفصح اللغات وأبينُها وأوسعها، وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس؛ فلهذا أُنزل أشرفُ الكتب بأشرف اللغات، على أشرف الرسل، بسفارة أشرف الملائكة، وكان ذلك في أشرف بقاع الأرض"( ).
وما جهل الناس ولا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب وميلهم إلى ألسنة الفلاسفة( )، أو اغترارهم باللغات الأخرى المعاصرة، حتى رأوا أن للغات الأخرى فضلاً على العربية، وشأنًا ترتفع به عليها، وهذا مكمن التبعية!، وشعور النقص، وهو كمن يخلط ما لديه من الذهب بشيء من رديء النحاس، أو ما دون ذلك، ولا شك أن لذلك عظيمَ الأثر في تغير ثقافات الناس، وعاداتهم، أو الزهد في إرثهم العظيم، يقول عمرُ بن الخطاب: "تعلَّموا العربيةَ؛ فإنها تُنبِتُ العقلَ وتزيدُ المـروءةَ"( ).
وعدم الاهتمام باللغة العربية، وإحلال المرادفات الأجنبية بين طياتها ومفرداتها، وتضاعيف بنائها له الأثر السلبي على تجويدِ اللغة، وقوةِ البيان، بل وانتشارِ اللحن، وضياعِ الحرف في اللسان، ولأجل ذلك دقَّ الأوَّلون ناقوس الخطر لمَّا ظهر على فلتات اللسان قبيحُ اللحن، وتشويهُ روعة البلاغة، فبلغ بهم الأمر أنْ كانوا يؤدبون ويزجرون ويستغفرون من اللحن، ذلك أن الأمر كان كبيرًا على ألسنتهم، ولعلمهم أن الخطأ في اللغة خطأ يترتب عليه أخطاء في الدين الأصيل، والفكر العربي، والثقافة العادلة.
فقد مرَّ عُمَرُ على قوم يسيئون الرمي، فقرعهم وزجرهم على الخطأ في الرمي، فقالوا: إنا قومٌ "متعلمين"، فلما رآهم عمرُ قالوا: "متعلمين"، وكان حقُّهم أن يقولوا: "متعلمون" أعرض عمر مُغْضَبًا، وقال: "والله لخطؤكم في لسانكم أشد عليّ من خطئكم في رميكم"( ).
بل صرّح العلماء أن الحفاظ على اللغة واجب حتميٌّ، والتساهل في ذلك يقع في ورطات الدين، لأنَّ الدين عربيُّ بلسان عربي، فكلما ضعفت الآلة للوصول إلى المورد الزلال ضعف الدِّلاء عن استخراج جمال الدرر والأصداف، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "اللغةُ العربيةُ من الدين، ومعرفتُها فرضٌ واجبٌ؛ فإنّ فهمَ الكتاب والسنة فرضٌ، ولا يُفهمُ إلا بفهم اللغةِ العربية، وما لا يتمُّ الواجبُ إلا به فهو واجبٌ"( ).
ولا شك أن اللغة العربية بحر لا يستوعبها لسان، ولا يحيط بفضلها وصف أو بيان، فلا يحيط باللغة إلا نبي كما قاله الشافعي( )، وقالَ -رحمه الله: " أوسع الألسنة مذهباً، وأكثرها ألفاظًا "( ).
لذا نجد أن الصحابة حثوا على تعلم غريبها، ومعرفة مفرداتها، قال أبو هريرة: "أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه"( )، والقرآن هو الأصل الأصيل، والبيان القويم، وعليه قامة المعاجم، وفكرة التأليف في غرائب اللغة.
وقولُ أبي هريرة :"أعربوا القرآن" أي: تعرفوا على معاني ألفاظ القرآن، وهذه دعوة منه إلا أن يكون للإنسان نصيب من معرفة مفردات التفسير، ولو الشيء اليسير، مثلُ معرفة كلمة ﭽ ﭧ ﭼ من قوله تعالى: ﭽ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭼ ، وكلمة ﭽ ﭗ ﭼ من قوله تعالى: ﭽ ﭖ ﭗ ﭼ ، وما شابه ذلك، إذْ لا يحسن بالإنسان أن يقرأ كلام ربه، ولا يبذل أدنى جهد في معرفة معناه، ﭽ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﭼ
ولم يزل الخلفاء الراشدون بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- يحثون على تعلم العربية وحفظها والرعاية لمعانيها، إذ هي من الدين بالمكان المعلوم والمحل المخصوص، وهي لغة القرآن وبه يُفهم، ومن ذلك: ما قاله أبو الأسود الدؤلي: دَخَلْتُ على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-فوجدت في يده رقعة، فقلت: ما هذه يا أمير المؤمنين؟ فقال: "إني تأملت كلام العرب فوجدته قد فسد بمخالطة هذه الحمراء (يعني الأعاجم) فأردت أن أضع شيئًا يرجعون إليه ويعتمدون عليه"، ثم ألقى إليَّ الرقعة وفيها مكتوب: الكلام: اسم وفعل وحرف، وقال لي: "انح هذا النحو"( )
وقال هارون الرشيد يومًا لبنيه: "ما ضر أحدَكم لو تعلم من العربية ما يُصلِح به لسانَه، أيسر أحدَكم أن يكون لسانُه كلسان عبده وأمته"( ).
فاللهم احفظ علينا ديننا، وأدم علينا لغتنا
الخطبة الثانية: إن الحمد لله...
لما كانت اللغة العربية هي الوعاء الناقل للدين، وهي الرسالة التي يُفهم معها القرآنُ المتين سعى أعداء الملة على محاربتها، والتقليلِ من شأنها، وإخراجِ جيلٍ مُوغلٍ في العامية، ولا يعرف أصول القواعد والبناء العربي، وإذا كَتَبَ فإنه يكتب بلغة مهزوزة ضعيفة، مع طغيان الدخيل من اللغات الأجنبية على المفردات لدى المجتمعات العربية، أوغل الناس في اللهجات العامية، حتى لو تكلم اثنان عربيان بالعامية، وهما مِن مصرين مختلفين لما كاد يُفهم أحدُهما الآخر.
فالعدو يريد اقتلاع اللغة العربية من ألسنتكم، كما قتلوا مدرسي اللغة العربية! نعم. قتلوا مدرسي اللغة العربية، فقد صرح الكاتب البلجيكي "ميشيل كولون" بأن الاحتلال الفرنسي لمالي تسبب في قتل آلاف مدرسي اللغة العربية، لأنهم وجدوا أن ذلك أسهلُ طريق للتنصير، وأقرب صراط للإبعاد عن فهم القرآن والدين( ).
فالواجب علينا أن نُحبِّب اللغة العربية في نفوس النشء، وأن نُسهِّل لهم تعاطيَها، وأن نُجدِّد في الوسائل ونبتكر في الأساليب الملائمة للعصر، والتي تبقي لسان الجيل طريًا بلغة القرآن، كما أن الواجب على كل مسؤول أن يُبقيَ على اللغة العربية مكانَ السيادة، وطابعَ الرسمية: في الاجتماعات، والندوات، والمؤتمرات، وقاعات التدريس، وأن تُكافَح العامية في الدعايات والإعلانات، والتي أصبح للعامية فيها حضور للأسف الشديد.
والحمد لله رب العالمين
عاصم بن عبدالله بن محمد آل حمد