الجائحة الجديدة
بسم الله الرحمن الرحيم
"الجائحة الجديدة"
3/ 3 / 1446هـ
الحمد لله.... أما بعد:
صعوبة في التركيز، وبطء في اتخاذ القرارات، الشعور بالملل والغثيان، تعرق وارتعاش، اضطرابات في النوم، وتسارع في نبضات القلب، وشكٌّ في وجود لذةِ الحياة، توصله إلى الرغبة في الانتحار، كلُّ ما مرَّ أعراضٌ لجائحة جديدة غلبت على أكثر أهل هذا القرن، إنها جائحة (اضطراب القلق)، والشعورِ بالتوتر الدائم، والتذبذب النفسي.
القلق حالة شعورية مخلوقة مع الإنسان.
إن القلق هو: شعورٌ بعدم الارتياح، وانتيابٌ في التوتر وأحاسيسٌ من الخوف( ).
القلق حالة شعورية لا يخلو منها أحد من الناس، إذْ إن طبيعة الحياة كونُها ممزوجةً بالهموم والغموم، يكابد الإنسانُ فيها مضايقَ الدنيا، وشدائدَ الآخرة، فأول ما يعاني منه قطعُ سُرَّته إذا خرج من بطن أمِّه وهو في صراخ وألم، وآخرُ ما يعاصر ويصارع سكرةُ الموت إذا تهيأت روحُهُ للخروج من الدنيا، وبين ذاك وذاك مكابدةُ الأوجاع والأحزان، والأولادِ والأجناد، وشغلُ الدور والتطلعُ للقصور، ثم الكِبَرُ والهَرَم، في مصائب يَكثرُ تعدادُها، ونوائبَ يطولُ إيرادُها، وقد أخبر الله عن هذه الحقيقة فقال: ﭽ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﭼ البلد: ٤( ).
طُبِعَتْ على كَدَرٍ وأنت تريدها
صفـوًا من الأقــذاءِ والأكــدارِ
حقائق في عالم القلق.
القلق بحد ذاته لا يكاد يسلم منه أحد، لكن الخطورة في التعامي عن علاج مقدماتِه وإرهاصاتِه، قبل أن يتنامى ويتضخمَ ويكونَ عادةً دائمةً في الروح، إن القلق البسيط إذا لم يُعالج في وقته فإنه يتطور إلى اضطرابات سلوكية، وفوضى إدراكية، فينفلت الإنسان مِن طورِه وشعورِه إلى الولوج في الضغوط النفسية المستمرة، ولربما أدت اضطرابات القلق -التي أهمل الإنسان نواتها وغفل عن بداياتها- إلى إفساد عائلته وحياته الوظيفية والاجتماعية.
إن القلق إذا زاد عن حده سُمِّي بمرض (اضطرابات القلق) وهو من أكثر الاضطرابات النفسية شيوعًا في الدنيا، إذْ أصابَ (اضطرابُ القلقِ) في أحد الأعوام ثلاثَمئةِ مليونِ شخص حول العالم، وتتأثر النساء (باضطرابات القلق) أكثر من الرجال، وغالبًا ما تبدأ أعراضُ القلق في مرحلة الطفولة أو المراهقة ( ).
إننا نواجه جائحة جديدة، وعلاج هذه الجائحة مُقَدَّرٌ بكلفة عالمية تساوي 6.5 تريليون دولار سنويًا( ).
من أعظم أسباب القلق: الخوف من المستقبل.
- إن من أسباب الوقوع في القلق: وجودَ تاريخ من التجارب المجهدة أو الذكريات المؤلمة، مثل العنفِ المنزلي أو إساءة معاملةِ الأطفال أو التنمر عليهم( ).
-ومن أسباب القلق: البعدُ عن الرياضة البدنية، وتعاطي الكحول والمسكرات، والفوضى في عادات الأكل، والبعد عن اتباع النظام الصحي الغذائي( ).
-وإن من أكبر أسباب القلق التي انتشرت في الآونة الأخيرة: القلق من المستقبل من نواحي عديدة: كالوظيفةِ، والزواجِ، ومستقبل الأولادِ، ورفع سقف التوقعات المادية، ووضع اشتراطات وهمية للسعادة، حتى يكون المرء في رُهاب فكري، وخوفٍ من مجهول، ولربما جعله هذا الشعورُ العنيفُ يصل إلى ما يريد عن طريق الحيلة، والفساد، والمكر، والرشاوي، والاعتداء على الآخرين، وما ذلك إلا لضعفِ التوكل، وتضخيمِ أمر الدنيا، وسوءِ الظن بالقائل الرزاق: ﭽ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭼ.
القلق نجوى شيطانية.
وما أكثر الشباب اليوم الذي يفكر مُبكرًا، ويهتم ويقلق عاجلاً، فمنذ تخرجه وهو في همِّ شديد لتملك المنزل، فيُحمِّل نفسَه الديون التي ترهق كاهلَه، وتُضيّق رزقَه، فيكونُ كمن هرب من القلق إلى القلاقل، وكمن استجار من الرمضاء بالنار، وهذا القلق إنما هو نجوى شيطانية، وأحاديثُ نفسٍ باطنية، تُدخِل الحُزنَ واليأسَ في قلب المؤمن، وعلاجُه أن تفرح بالله، بأنه خالق الجميع، ورازق الجميع، افرح بالله كونه أرحمَ الراحمين، وألطف المتلطفين، وتعوذ من الشيطان ﭽ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﭼ المجادلة: ١٠
وليس من صفات المؤمن أن يَحمِل الدنيا فوق رأسه حملاً، وأن يقلق من مجهولٍ قلقًا، فالقلق الدائم من الرزق مرض شائن، وزلزال عاصف، يقول : "من كانت الآخرةُ همَّه جعل الله غناه في قلبه، و جمع له شمله، و أتته الدنيا و هي راغمة، ومن كانت الدنيا همَّه جعل الله فقره بين عينيه، و فرَّق عليه شمله، و لم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له"( ). "إذا أصبح العبد وأمسى وليس همُّه إلا الله وحده تحمّل الله عنه سبحانه حوائجَه كلَّها، وحمل عنه كلّ ما أهمّه...وإن أصبح وأمسى والدنيا همُّه حمّله الله همومَها وغمومَها وأنكادها ووكَلَه إلى نفسه، فهو يكدح كدح الوحوش في خدمة غيره، ﭽ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭼ الزخرف: ٣٦ "( ).
فاللهم احفظ علينا ديننا وعرضنا ومالنا، واكفنا شر أنفسنا والشيطان، وأرضنا بالقليل، ومتعنا متاع الصالحين، واجعلنا في حياة هنية، وعيشة مرضية، أقول ما تسمعون...
الخطبة الثانية:
القلق مرض روحي، وعلاجه بالأمر الروحي.
عبد الله. إن القلق مرض روحي، ووالله إن في القلوب انزعاجًا واضطرابًا، وحيرتًا وارتيابًا لا يطفئها إلا ﭽ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﭼ الرعد: ٢٨ فلا أحسن من علاج القلق بالأمر الروحي، فزيادةُ الإيمان أمر روحي، والرقيةُ الشرعية أمر روحي، وانشراحُ الصدر بالطاعات أمر روحي، والتعلقُ بالله وتفويضُ الأمر إليه رُقِيٌّ بالنفس وطمأنينةٌ للخاطر، وتلاوةُ القرآن وتدبّر معانيه أعظمُ علاج، وخير سبيل: ﭽ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﭼ النحل: ٩٧
تعامل الإسلام مع القلق.
إن الإسلام يساهم في محو كل سبب من أسباب القلق، واضعًا الطرق التي تُنهي الاضطراباتِ الشعورية، والتوترات النفسية، فالدين الحنيف يروض النفس على الإيمان بالقضاء والقدر، وهذا الإيمان هو مِفتاح الراحة، وبوابةُ الرضى، ومَن فَقَدَه تخلخلت روحُه، وانزعج فؤادُه، وبات نادمَ النفس، قارعَ الضرس، ومِن هنا تجد المؤمنين أرحبَ الناس نفسًا لمعترك الدنيا، فهم يعلمون أن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم، وما أخطأهم لم يكن ليصيبَهم، فيطردون الجزع بالصبر، وينفون القلق بالتسليم بالمكتوب الذي جفَّت عليه الأقلام، ورُفِعت عليه الصحف، يؤمنون بقول النبي : "وما أُعْطِيَ أحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ"( )، فالمؤمن لا يخشى الفقر، ويتسلى بالقناعة، ويتفاءل بالمقدور، ويستروح بحسن الظن بالخالق.
العلاجات التجريبية لا تُغفل.
إن من الأهمية بمكان أن يراجع الإنسان الأخصائي النفسي متى ما شعر ببوادر القلق، وليس عليه أن يكابر ويُمانع، فإن اقناع النفس بأنها الأفضلُ والأحسنُ يجعل الإنسانَ حبيس مكانه، لا يزاوله ولا يتعداه، وقد أعدَّت وزارة الصحة السعودية في موقعها الرسمي عبر الشبكة اختبارًا يُعطي نبذه عن الحالة النفسية، وعن درجة القلق لدى الشخص، فلا أقل من أن يعرض الإنسان نفسه على ذلك، مع العلم أنها وسيلةٌ تقريبية، يحتاج الإنسان بعدها إلى مراجعة المختص لنيل الاختبار الأدق.
فكن إيجابيًا، ناشرًا للطمأنينة، مبشرًا لا منفرًا، وتذكَّر قوله : "عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَهُ". رواه مسلم.
فاللهم آتنا حذرنا، واهد ضالنا، وارزقنا شكر نعمك، والعيش في رغد فضلك، واحفظنا بالإيمان....
عاصم بن عبدالله بن محمد آل حمد