مكتبـــــة الخطب

2025-12-21 09:45:50

التجارة من الجاهلية إلى الإسلام

بسم الله الرحمن الرحيم التجارة من الجاهلية إلى الإسلام 4 / 8 / 1444هـ الحمد لله الذي أباح لعباده الطيبات، وجعلها أوسعَ الأبواب، وحرم عليهم الخبائث وجعلها من مضايق الأعتاب، أحمده على آلائه ومزيدِ إنعامه، أشهد أن لا إله إلا الله الواحدُ الرزاق الوهاب، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله النبيُّ الأواب، خيرَ من جاهد وقام، وأشرفَ من تاجر وصام، لم تَصرفه الدنيا عن الآخرة، ولم يُشغله بابٌ عن باب، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المعاد، أما بعد: أسواق الجاهلية وتَحرُّج المسلمين. كانت أسواق الجاهلية تَعُجُّ بالرُّواد، وتمتلئ بأهل الآفاق، وكانت أسواقهم متعددة، كسوقِ عُكاظ وذي المَجَاز، والمَجَنَّة، ولم تكن أسواقًا للبيع والشراء فحسب، بل كانت منتدياتٍ ثقافيةً واجتماعيةً وسياسيةً، يتبادرون فيها الشعر والمديح، وقد بقيت هذه الأسواق حتى صدرِ الإسلام، فتحرَّج المسلون من الذهاب إليها. بوب البخاري في صحيحة (باب التجارة أيام الموسم، والبيعِ في أسواق الجاهلية)، قال ابن عباس: "كان ذو المجاز، وعكاظ متجرَ الناس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام كأنهم كرهوا ذلك، حتى نزلت: ﭽ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭼ قال ابن عباس: في مواسم الحج"، فأباح لهم الاتجار. دعوة النبي ﷺ في أسواق الجاهلية. وكان النبي ﷺ لما بُعث في مكة يهتبل مواسم الأسواق، ويغتنم مجامع الناس، لا لتجارة الدنيا، ولكن لتجارة الآخرة، فكان يُقيم دعوة الله على خلقه لمَّا كان أولَّ الإسلام، وكان ﷺ يصبر على الأذى، ويدفع بالحسنى، فعن ربيعة بن عباد، قال: رأيت النبي ﷺ في الجاهلية في سوق ذي المجاز وهو يقول: "يا أيها الناس، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا" والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضيءُ الوجه، أحولُ، ذو غَديرتين، يقول: "إنه صابئ كاذب". يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه فقالوا: هذا عمُّه أبو لهب( ). وكل هذه الأسواق دعا فيها رسول الله ﷺ القبائل قبيلة قبيلة، فلم يستجب له أحدٌ، حتى بعث له ربُّه قومًا أراد بهم كرامتَه، وهم الأنصار، فبايعوه، وصدّقوا به، وآمنوا به، وبذلوا أنفسهم وأموالهم( ). أثرياء الصحابة المبشرون بالجنة. وكان أصحاب النبي ﷺ يَصفِقون بالأسواق، ويُبايعون ويُتاجرون، ولم يكن يُشغِلُهم ذلك عن الآخرة، ولكنّ حالهم كما قال الله: ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭼ النور: ٣٧، قال قتادة: "كان القوم يتبايعون ويتجرون، ولكنهم إذا نابهم حقٌّ من حقوق الله، لم تلههم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، حتى يؤدوه إلى الله"( ). وكان هنالك جملةٌ من أثرياء الصحابة، كعثمان بن عفان والذي قُدِّرت ثروتُه بثلاثينَ مِليونَ دِرهمِ فضة، ومائةٍ وخمسينَ ألفَ دينار، ولكنه كان ميزانيةً حربية، فقد جهز لوحده جيشًا كاملاً بعُدَّته وعتادِه، وهو جيشُ العسرة في غزوة تبوك، وقال النبي ﷺ:" من جهز جيش العسرة فله الجنة " رواه البخاري. ومن أثريائهم طلحةُ بنُ عبيد الله الذي كانت ثروتُه في خزانته لما قتل:" ألفا ألفَ درهم ومئتا ألف دينار"( )، أي ما يقارب ثلاثَمئةِ مليونَ درهم، لكنه كان لا يدع من أقاربه أحدًا إلا زوجه، ولا منهم فقيرًا إلا كفاه، ولا منهم محتاجًا لخادم إلا أخدمه، ولا مديونًا منهم إلا قضى دينه، ومن هنا بارك الله له في ماله، فكان مدخولَه اليومي يُقدَّرُ بخمسِمئةِ ألفِ درهم ( ). وكان من أثريائهم الزبيرُ بن العوم، والذي كان مشهورًا بالعقار، روى البخاري: "فقتل الزبير، ولم يدع دينارًا ولا درهمًا إلا أَرْضين، منها الغابة، وإحدى عشرة دارًا بالمدينة، ودارين بالبصرة، ودارًا بالكوفة، ودارًا بمصر"( )، وقد بلغت قيمة عقاراته خمسين مليونًا، ومئتي ألف. وكل هؤلاء هم من العشرة المبشرين بالجنة، وكل هؤلاء قتل شهيدًا في سبيل الله، فلم تكن الدنيا ملءَ قلوبهم، بل كانت في أيديهم. وكثيرٌ غيرُ هؤلاء من الصحابة طالت ثرواتهم مع قلة مصادر الثروة ذلكم الزمن، ولم تكن أموالهم عبر المخاطرة والقمار، ولا عبر الاحتيال والسُّحت وأكل أموال الناس بالباطل، بل بطبيعة الأسواق وبساطتها، مع صدق قلوبهم وعظيم لَجَئِها، فبارك الله في أموالهم. فاللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاةَ الدائمة في الدنيا والآخرة، اللهم عافانا فيمن عافيت، واصرف عنا شر ما قضيت، اللهم كثر أموالنا، وبارك لنا فيما رزقتنا. الخطبة الثانية: الحمد لله... الغش والاحتكار. إن التاجر الصدوق هو خير ما ينفع الناس، وإن تُجَّار الإسلام نقلوا الإسلام من غير حروب، ولكنها القدوة والمعاملة، وإن تجار اليوم عليهم أن يكونوا أصدق الناس للناس، فإن من الناس: المحتاجَ وأصحابَ العَوَز، وقصيرَ النظر، وبسيطَ التفكير. فما أحوج الأمة إلى الصادق البار، الذي لا يغش الناس، مرَّ النبي ﷺ على صُبْرَةِ طعام فأدخل يده فيها، فنالت أصابعُه بللاً فقال: "ما هذا يا صاحب الطعام؟" قال: أصابته السماء يا رسول الله، فقال ﷺ: " أفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ، مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي"( ). وما أحوج الأمة إلى الصادق البار الذي يتسامح في بيعه وشرائه، وعند أخذه دينَه الذي ديَّنه، قال ﷺ: "رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى" رواه البخاري. وما أحوج الأمة إلى الصادق البار الذي لا يحتكر السلع، قال ﷺ: "من احتكر فهو خاطئ" رواه مسلم، والاحتكار المحرم هو أن يحبس السِّلعة مع حاجة الناس إليها ليرتفع بذلك سعرها. التستر التجاري. ثم لِنَحذرْ-عباد الله- من التستر التجاري، فإن الأضرارَ الاقتصاديةَ والأمنيةَ والاجتماعيةَ المترتبةَ على هذه الجريمة النكراء عظيمةٌ وخيمةٌ، فمن فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء برئاسة الشيخ ابن باز: "لا يجوز التستر على العمالة السائبة والمتخلفة والهاربة من كفلائهم، ولا البيعُ أو الشراءُ منهم؛ لما في ذلك من مخالفة أنظمة الدولة، ولما في ذلك من إعانتهم على خيانة الدولة التي قدموا لها"( ). وفي سياق آخر قالت اللجنة أيضًا: "لا يجوز استقدامُ العمال وتركهم يعملون خلاف ما قررت الدولة، ولا يجوز للكفيل أن يأخذ عليهم شيئًا من المال مقابل كفالتهم‏"( ). التجار فُجَّار إلا... . ولمَّا كان من دَيدَنِ بعضِ التجار التدليسُ في المعاملات، والتهالُكُ على ترويج السلع بما تيسر لهم من الأيمان الكاذبة ونحوها، حكمت عليهم الشريعة بالفجور، واسْتُثْنيَ منهم من اتقى المحارم قال ﷺ: "إِنَّ التُجَّارَ يُبعَثُونَ يَومَ القِيَامَةِ فُجَّارًا، إِلَّا مَن اتَّقَى اللَّهَ وَبَرَّ وَصَدَقَ"( ). وأما الصادقُ الأمينُ فحكمت له الشريعة بالمكان المُعَلَّى، والعاقبة الحميدة، قال ﷺ:"التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ"( ). فاللهم إن نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغقرَ لنا وترحمَنَا، اللهم زدنا ولا تُنقِصنا، وأكرمنا ولا تُهنّا، وأعطنا ولا تَحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضنا وارضَ عنا يا رب العالمين... . عاصم بن عبدالله بن محمد آل حمد
📄 اضغط لمشاهدة الملف

خطب ذات صلة